ولَّت أيــام رمضان مُسْرِعَة، ولم يبق منه إلا أيــامٌ قلائل وما أعظمها .. إنها العشر الأواخر ..
وفي هذه الأيام تحتاج إلى المسارعة بل ومسابقة الأنفاس؛ لأنها تمر مَرَّ السحــاب .. وكل لحظة مرت لا تعود ولا تعوَّض ..
فســابق أجلك، وأدْرِك رضـــا الله بعملك، واشحِذ هِمَّتك؛ فهذا أوان جِدَّك ..
وقد كان النبي يخُص العشر الأواخر بأعمال لا يعملها في بقية الشهر .. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.[متفق عليه] .. وعنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.[صحيح مسلم]
وفي هذا الوقت نحن بحاجة إلى التبروء الحقيقي من حولنا وقوتنا .. وأن ندخل على العشر بخضوع وانكسار؛ حتى يُكرمنا الله تعالى ببلوغ ليلة القدر .. فإنما بلوغها هو محض فضل ونعمة وإكرام من الله سبحــانه وتعالى.
ومتى رأى الإنسان منا نفسه بعين التقصير والذنب، كانت تلك الرؤية هي مصدر قوته ..
والعبد سائرٌ في الطريق إلى ربِّه بين العطفواللطف ..
يقول ابن القيم "ومتى صح تفويض العبد ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه ..فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهوِّن عليه ما قدَّره" [الفوائد (1:147)]
وقال أيضًا "اللطف مع الضعف أكثر، فتضاعف ما أمكنك" [بدائع الفوائد (4:332)]
وبدون عطف الله تعالى عليك ولطفه بك، لن تستطيع أن تعبُدُهُ بحق ولا أن تُكمِل طريقك في السير إليه سبحانه وتعالى ..
فالخذلان هو أن يكلك الله إلى نفسك ..
ولكي تنـــال عطف الله تعالى ولطفه، عليـــك بـــ..
أولاً: التسليم والتفويض .. فلابد أن تفوِّض أمرك لله عزَّ وجلَّ، وتُكثِر من الدعـــاء لكي يوفقك ويتقبَّل منك .. وألِح عليه في الدعـــاء بأن يُبَلِّغَكَ ليلة القدر وأن يجعلك من الفائزين بها ..
نسأل الله تعالى أن يُكرمنا ببلوغ ليلة القدر وقيامها،،
ثانيًا: الرضـــا .. أن ترضى بما قسمه الله لك من الرزق مهما كان .. قال رسول الله "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً"[رواه مسلم]
ثالثًا: الشكر .. يقول ابن القيم "ومن لطائف التعبُّد بالنِعَم أن يستكثر قليلها عليه، ويستقل كثير شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها ولا وسيلة منه توسل بها إليه ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد فلا تزيده النعم إلا انكسارًا وذلاً وتواضعًا ومحبةً للمُنعم. وكلما جدد له نعمة رضي، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له توبةً وانكسارًا واعتذارًا" [الفوائد (1:119)]
فإذا أظهرت عجزك بين يدي الله عزَّ وجلَّ كان هذا من الشُكر،،
فضائل العشر الأواخر
مع بداية العشر الأواخر، نحتـــاج إلى وقفة صادقة مع أنفسنا ..
دون كذب أو خداع أو مواربة ..
بعد مرور ثُلثي رمضان: هل أديت العبـــادات على وجهها وذاق قلبك طعمها؟!
هل عِشت رمضان حقيقةً كما يحب ربنـــا ويرضى؟! .. هل حصَّلت التقوى المنشودة من وراء الصيــام؟!
هل تلوَّت القرآن وسمعته وأحيا الله به مَوَاتَ قلبك؟! .. هل أنار قلبك بنور الإيمان؟!
هل تحوَّل نمط حيـــاتك فصرت عبدًا ربانيًا؟! .. هل بعد هذا التغيير عازمٌ على الثبات؛ فلن تعود للمعاصي؟!
هل بعد تلك الليالي المباركة؛ تظن أن رقبتك قد أُعْتِقَت من النار وغُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك؟!
قف وقفة صادقة مع نفسك واستعن بالله، واعمل فيما بقي عمل مَنْ يريد استدراك ما فـــــات ..
نظريـــــة السوس
لو كان لديك قطعة من الأثــاث تبدو من الخارج جيــدة سليمة من أي عيـــوب، وفجأةً دون ســابق أنهارت وتناثرت أجزائها على الأرض .. وإذا اقتربت منها تفاجأت بأن السوس قد دبَّ في جذورها وأكلها من الداخل .. إنها نظرية السوس والبحث عنه ..
وهذا ما يجب أن تخشــاه على صيـــامك ودينك ككل، فقد تكون بداخل أعمالك سوسة تنخر فيه حتى يتساقط كليةً ولا يُقبَل منه شيئًا ..
فأول فضائل العشر الأواخر: وقفة للبحث عن السوس ..
سوسة قلبك ..
التي تنخر بداخله فتُفْسِد عليك عملك وتُحْبِطهُ، مثل: الكِبر، والعُجب، والأنانية، والحقد، والحسد، والضغينة، والبغضاء، وسوء الأخلاق ..
إنما شُرِعَ الصيــام والقيــام وتلك الأعمال التي أديتها في رمضان؛ لتزكية نفسك وإصلاح قلبك .. ولكن هناك بعض الأمراض المستوطنة التي يصعُب اقتلاعها بسهولة، فقبل انتهاء رمضان عليك أن تبحث عن سوسة قلبك التي أفسدت عليك حيــاتك.
وإن من علامات القبول: أن يزداد الإنسان انكسارًا وذُلاً وخضوعًا للربِّ جلَّ جلاله ..
فازدد ذُلاً، تزدد قُربًا،،
ثانيًا: ملازمة الاستغفار ..
لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالاستغفار بعد الحج، فقال تعالى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].. وذكر عن العابدين المُتهجدين أنهم كانوا يختمون صلاتهم بالاستغفار، فقال سبحانه وتعالى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (*) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات: 17,18] .. قال الحسن "مَدُّوا الصلاة إلى السَّحَر، ثمَّ جلسوا يستغْفرون"
وكان من هدي النبي محمد إذا انتهى من الصلاة أن يستغفر ثلاثًا، فيقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله .. عن ثوبان قال: كان رسول الله إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا ..[رواه مسلم] .. وكان رسول الله يقول "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يوم مائة مرة"[السلسة الصحيحة (1452)]
ففي ختـــام الأعمال يأتي الاستغفار على ما كان منك من تقصير ..
فأكثِر من الاستغفار في نهاية صيـــامك ..
وأنفع الاستغفار: ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار .. فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر؛ فمردود وباب القبول عنه مسدود ..
قال كعب "من صام رمضان وهو يُحَدِّث نفسه أنه إذا أفطر بعد لا يعصي الله؛ دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب. و من صام رمضان و هو يُحَدِّث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربَّه، فصيامه عليه مردود" [لطائف المعارف (1:232)]
ثالثًا: سؤال الله العفو والانشغال بذلك ..
عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟، قال "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"[رواه أحمد وصححه الألباني]
العفوُّ من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته .. وكان النبي يقول "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"[رواه مسلم]
فيــــا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر، أكبر الأوزار في جنب عفو الله يَصْغُر ..
وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الإجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحًا ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر .. قال يحيى بن معاذ "ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو" [لطائف المعارف (1:228)]
فسلِّ الله العفو في جميع أحوالك،،
رابعًا: بذل أقصى حدَّ في الاجتهاد ..
ينبغي أن يكون الاجتهاد في أواخر الشهر أكثر من أوله؛ لأمرين:
أحدهما: لشرف هذه العشر وطلب ليلة القدر ..
والثاني: لوداع شهرٍ لا يدري هل يلقى مثله مرةً أخرى أم لا ..
وإذا كان العبد من المقبولين، ستزداد طاعاته وقرباته كل يومٍ عن الآخر، حتى يصل إلى أقصى علو همة عند نهاية الشهر ..
كما كان شأن النبي وأصحابه.
فلابد من شحذ الهمَّة وجمع، والإقبـــال على الطاعة والتفرُّغ لها خلال العشر، وليس لذلك مثل أمرين:
1) عُمرة رمضان .. قال رسول الله "عمرة في رمضان كحجة معي"[صحيح الجامع (4098)]
2) الاعتكـــاف .. وهو سُنَّة مؤكدة عن رسول الله ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.[متفق عليه]
أيــــام العشر أيـــــــام الحيــــاة ..
فيها الخيرات والبركات، والأجور الكثيرة، والفضائل الجزيلة .. فيها تزكو الأعمال، وتُنــال الآمـــال ..
ألا إن شهركم قد أخذ في النقص؛ فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به وقد انصرف ..
يا شهر رمضان تَرفَّق، دموعُ المُحِبين تَدَفَّق ..
قلوبهم من ألم الفراق تُشقق،
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي في عمره إليه رجوع؟!
عسى وقفةٌ للوداع تطفيء من نار الشوق ما أحْرَق .. عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كلما تخرَّق .. عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلْحَق .. عسى أسيرُ الأوزار يُطْلَق .. عسى من استوجب النار يُعْتَق،،
اللهم أعتقنا من النـــار وتقبَّل منا رمضان وبلِّغنا ليلة القدر ..
اللهم أَعِدْ علينا رمضان أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة،،